بعد نظر الملك عبدالعزيز دفعه لإرسال (أول بعثة طلابية) إلى مصر عام 1348ه ليعودوا لخدمة الوطن الابتعاث.. تأسيس لجيل يقود التنمية





إعداد: حمود الضويحي
يقاس تقدم الأمم وتحضرها بما تملكه من علم تشيّد به نهضتها، لذا شكّل نشر العلم وتحصيله في هذه البلاد أحد أهم أوليات المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - حيث أولى العلم والعلماء جل اهتمامه، فقرّب إليه العلماء، ونهج في افتتاح المدارس، إذ بدأ في عهده التفكير في إنشاء مؤسسة تعليمية حكومية نظامية، وتطوير التعليم، وتحديث مناهجه، بل وإدخال العلوم الحديثة ضمن مقررات دراسية تحت إشراف معلمين أكفياء، فنشأت فكرة تأسيس المعهد العلمي السعودي بهدف تخريج معلمين ذوي كفاءة علمية وتربوية لمواجهة النقص الحاد في المعلمين، إضافةً إلى تزويد الإدارات الحكومة بالموظفين المؤهلين،

تذكارية لأول بعثة دراسية في عهد الملك عبدالعزيز عام 1348هـ
الذي تم افتتاحه عام 1345ه، تلاه افتتاح عدد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والمعاهد باختلاف تخصصاتها في جميع مدن المملكة. 
ولنظرة المؤسس الثاقبة في ضرورة حصول عدد من أبناء البلاد النابغين على تعليم عال مما لا يتوافر بالمملكة، جاء قرار ابتعاث عدد من الطلاب إلى خارج المملكة، من أجل ذلك كانت جمهورية مصر العربية أولى تلك الجهات التي تم ابتعاث طلاب إليها عام 1348ه، وقد أثبت هؤلاء المبتعثون جدارتهم وشقوا طريقهم في سبيل تحصيل أعلى الدرجات في زمن كان يتسم بالبساطة، حيث كان المبتعث ينتقل من بيئة محافظة الى بيئة أكثر انفتاحاً وتطوراً في شتى الميادين، وبالرغم من ذلك لم تسرق أضواء تلك المدنية والتحضر أبصارهم، ولم تؤثر في التغيير في طباعهم وعاداتهم، بل كانوا على العكس أشد تمسكاً بدينهم وحفاظاً على هويتهم وثقافتهم، ليعودوا الى أرض الوطن حاملين أكبر الشهادات والدرجات العلمية من "البكالوريوس" و"الماجستير" و"الدكتوراه"،
مصر كانت محطة الانطلاق لابتعاث أبناء المملكة


استطاع المبتعثون التكيف مع المتغيرات الخارجية سواء من حيث الثقافة أو اختلاف اللغات
 وليساهموا في بناء الوطن في وقت أشد ما كانت الحاجة إليهم، فحققوا النجاح والبناء وضربوا أروع الأمثلة في التفاني والإخلاص. عام 1348ه شهد أول ابتعاث طلاب إلى مصر فأثبتوا جدارتهم بالنجاح توجيه ملكي بابتعاث (14) طالباً من الحجاز لإكمال الدراسة في مصر.. و«مدرسة تحضير البعثات» تولت المتابعة أول بعثة بدأ الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بإرسال الطلبة للدراسة في الخارج على حساب الدولة في عام 1348ه، ما يدل على مقدار اهتمامه بالتعليم ورغبته الجادة في انتشاره على جميع المستويات، فكانت بداية ابتعاث الطلاب السعوديين إلى مصر لاستكمال دراستهم الجامعية قبل تأسيس مدرسة تحضير البعثات، حيث صدر قرار مجلس الشورى بناء على توجيه ملكي بإرسال أربعة عشر طالباً من الحجاز لإتمام دراستهم الجامعية في مصر وهم ستة طلاب من مكة المكرمة، وثلاثة من المدينة المنورة، وثلاثة من جدة، واثنان من الطائف، وهؤلاء هم: أحمد قاضي، عمر قاضي، فؤاد وفا، عبدالله ناظر، أحمد العربي، ولي الدين أسعد، محمد شطا، صالح الخطيب، حمزة قابل، عمر نصيف، عبدالمجيد متبولي، محمد باحنشب، عبدالله باحنشل، وإبراهيم محيي الدين حكيم، وذلك للتخصص في دراسة القضاء الشرعي، والتعليم الفني، والزراعة، والطب، والتدريس،

وقد وضعت لذلك شروط الاختيار، وحددت النفقات من قبل مجلس الشورى ومجلس المعارف. أسماء ومناصب وضمّت أول بعثة دراسية سعودية إلى مصر د. يوسف بن يعقوب الهاجري، الذي كان وزيراً للصحة في عهد الملك سعود، ووالده يعقوب الهاجري من أهالي "ثادق"، الذي كان من رجال الدولة المعروفين والمقربين عند الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - إضافةً إلى أن البعثة ضمت: عبدالله وعبدالعزيز ابني إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن سيف المعمر، وهو أديب ترأس الديوان الملكي السعودي في العشرينات، واحتل في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - مناصب متقدمة في الديوان الملكي، إلى جانب أن البعثة ضمت: عبدالله بن حمود الطريقي - وزير البترول والثروة المعدنية سابقاً، وأول وزير بترول سعودي ومؤسس منظمة أوبك مع وزير البترول الفنزولي ألفونسو، وأول مبتعث سعودي للدراسة إلى الولايات المتحدة - وكذلك ضمت البعثة مصطفى حافظ وهبة ابن المستشار حافظ وهبة الذي كان مدير إدارة المعارف بالحجاز، ثم أصبح أول سفير سعودي لدى انجلترا، إضافةً إلى أحمد بن محمد العربي - مُرب وعالم وخطيب وأديب وشاعر مبدع مبرّز من الحجاز، وأحد طلائع رواد النهضة الأدبية والعلمية في الحجاز والمملكة - وصادق عبدالله دحلان من مواليد مكة المكرمة سنة 1333ه الذي حفظ القرآن الكريم على يد والده الداعية الإسلامي عبدالله دحلان، ثم أكمل تعليمه في الأزهر وتخرج فيه قبل (80) عاماً، إلى جانب أن البعثة ضمت عمر بن محمد نصيف، الذي كان مديراً لأوقاف جدة ورئيساً لبلديتها وهو والد د. عبدالله عمر نصيف - مدير جامعة الملك عبدالعزيز، ثم الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ثم نائب رئيس مجلس الشورى- ووالد د. محمد عمر نصيف - عضو مجلس الشورى. تحضير البعثات تعد مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة التي أسسها الشيخ محمد الدباغ، في 19 جمادى الأولى 1355ه ب "جبل هندي" من أهم الأحداث التعليمية في المملكة والجزيرة العربية على حد سواء، وثاني أقدم مدرسة بمكة بعد "مدرسة الصولتية"، وتعد أول مدرسة ثانوية في المملكة أسست على النظام العصري الحديث،
طلب العلم من الدول المتقدمة ينعكس أثره بالإيجاب على التنمية في المملكة

 الذي يمهد أمام الطالب طريق الالتحاق بالكليات الجامعية: الهندسة، أو الطب، أو الآداب، أو التربية، عن طريق تقديم تعليم عال يؤهل الطالب للابتعاث خارج المملكة لإكمال دراسته العليا، ولهذا سميت المدرسة ب "مدرسة تحضير البعثات"، وقد بدأت الخطوات التنفيذية لتأسيس هذه المدرسة في 1355ه، ولكن الدراسات المقدمة لمديرية المعارف العامة آنذاك لم تكن مكتملة من حيث المنهج المقرر، ولا من حيث سنوات الدراسة، وغير ذلك من المتطلبات الواجب توافرها عند الالتحاق وبعد التخرج. وقد احتاج الأمر إلى دراسة هذا الموضوع مرة أخرى بصور أدق وعلى أكمل وجه، بواسطة لجنة من المتخصصين، وبعد استكمال الدراسة عرض الأمر على الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فأصدر أمره في 12 رجب عام 1355ه بتأسيس هذه المدرسة، وأطلق عليها اسم مدرسة تحضير البعثات، حتى يدل اسمها دلالة واضحة على الغاية المتوخاة من إنشائها، وقد عني محمد طاهر الدباغ - رحمه الله - بتأسيس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، كما عني بتهيئة دار البعثات العلمية السعودية بالقاهرة، وأسندت إدارتها إلى مديرين مشهود لهم بالكفاءة والإخلاص، ومنهم على سبيل المثال المربي القدير ولي الدين أسعد - رحمه الله 


شباب الوطن أثبتوا جدارتهم وحققوا النجاح
- وكانت هذه الدار تضم الطلبة المبتعثين، حيث يهيأ لهم فيها المسكن والطعام، ويشرف ولي الدين ومعاونوه على إلحاقهم بالمعاهد المختلفة، ويهتم بشؤونهم الدراسية والمعيشية في آن واحد، ما هيأ للطلبة الجو المناسب للدراسة المنظمة الجادة، التي آتت أكلها فيما بعد ثمراً جنياً، ورجالاً عاملين في شتى المجالات. بداية عهد وتم فيما بعد تأسيس دار للبعثات السعودية بالإسكندرية تولاها صادق ماجد كردي - رحمه الله - وكان يرعى الطلبة السعوديين الذي يتلقون دراستهم في "جامعة الإسكندرية"، وتمثل هذه المدرسة بحق بداية عهد التعليم الحديث السائد الآن في المملكة، فقد عنيت منذ اللحظة الأولى لافتتاحها بتدريس علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء والتاريخ واللغة الإنجليزية إلى جانب علوم الدين واللغة العربية، وهذه المدرسة لا تزال قائمة حتى الآن باسم مدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية بمكة المكرمة، وكان أول مبنى لتحضير البعثات بمكة في "حي المسفلة" في عمارة "البوقري" بالقرب من "حوش العشرة"، ثم انتقلت إلى القلعة ب "جبل هندي"، وكانت هناك غرف داخلية بالنسبة إلى الطلاب القادمين من أنحاء المملكة الأخرى سواء من مدن الحجاز، أو نجد، أو من المناطق الأخرى في المملكة، ويمكن القول إن مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذي كفل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت، الذين تخصصوا في الدراسة العليا المختلفة كالطب والهندسة وغيرها. إصرار وعزيمة وكان الدافع الحقيقي للمبتعثين مع الإصرار والعزيمة هو الحصول على الشهادة الدراسية التي تمكن الطالب من العودة إلى أرض الوطن وقد حقق النجاح، وحصل على شهادة علمية مرموقة تمكنه من خدمة وطنه في المجال الذي ابتعث من أجله، فاستطاع هؤلاء المبتعثون التكيف مع المتغيرات التي واجهوها في الخارج من حيث الثقافة واختلاف اللغات واللهجات والعادات والتقاليد، حيث لم تكن حجر عثرة لدى الغالبية منهم، بل إن عدداً منهم سافر وتغرب للحصول الشهادة، وقد اصطحب معه زوجته وعائلته التي كانت خير معين له في تحقيق ذلك، حيث وفرت له الهدوء والجو المناسب،


أبرز برنامج الابتعاث كوادر وطنية ستُفيد المملكة مستقبلاً

وقد كان هناك روابط وصلة بين الطلاب السعوديين في الخارج حيث يتزاورون ويقدمون الخدمة لمن يحتاج إليها منهم نوعاً من التكافل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال كان من يسافر في الإجازات يحمل عدداً من الهدايا إلى أصدقائه الذين لم يسعفهم الحظ للعودة في الإجازة إلى ذويهم بسبب ارتباطه الدراسي، كما يحضرون له عند العودة ما يحتاج إليه من أغراض كالأطعمة والقهوة العربية والتمور والأرز وبعض المأكولات الشعبية التي تحفظ لمدة طويلة من دون أن تفسد ك "القرصان" المجففة والجريش وغيرها، كما استطاع عدد من الدارسين أن يفرضوا كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم في المجتمعات التي انخرطوا فيها من أجل الدراسة والتحصيل العلمي. حجر عثرة ومن أهم ما يواجه بعض الدارسين هو الإخفاق في الدراسة بعد مضي سنوات من الدراسة وقطع شوط كبير من التحصيل، إلاّ أن الإصرار على إكمال الدراسة والبعثة جعل غالبهم يتخطى هذه المرحلة بالاستمرار وإعادة ما أخفق فيه من مواد ولو تجاوز ذلك سني البعثة المقررة، وقد يكون الإخفاق لا دخل للدارس فيه كأن يقف المشرف على رسالة "الماجستير" أو "الدكتوراه" حجر عثرة في طريق الدارس بكثرة الشروط وعدم توافق وجهات النظر. ومن الأمثلة على ذلك التعثر مما لا دخل للدارس فيه هو ما حصل لأحد المبتعثين للحصول على شهادة "الدكتوراه"، الذي أنهى رسالته ولم يتبق سوى المناقشة، فحصل ما لم يكن بالحسبان حيث توفي الدكتور المشرف على رسالة هذا الدارس، فاضطر إلى التغيير، الذي بدوره طلب تغيير الرسالة، فاستغرق ذلك أكثر من سنة، وقبل مناقشة الرسالة بقليل تفاجأ الدارس بوفاة الدكتور المشرف على الرسالة الجديد أيضاً، فعاد من جديد لاستكمال الرسالة بمشرف جديد طلب تغيير الرسالة، وبعد جهد جهيد استطاع بعد أكثر من عام أن ينهي الرسالة وجاء وقت مناقشة الرسالة فوضع يده على قلبه خشية أن يموت هذا الدكتور المشرف على الرسالة مرة ثالثة، ولكن الله سلم وحضر، وتمت مناقشة الرسالة وحصل على رسالة "الدكتوراه" بعد معاناة استمرت سنوات. عودة واحتفال عند عودة الطالب المغترب في بعثة دراسية إلى أرض الوطن في إجازة، أو عند إكمال بعثته والحصول على الشهادة فإنه يحظى باستقبال حار من قبل أهله ومحبيه، فعند وصول الخبر فإن السعادة تغمر الجميع، خصوصاً الأهل والأقارب، وحتى أهل البلدة جلها الذين يفخرون بتحقيق هذا الدارس الشهادة العليا، فتبدأ سلسلة العزائم وإقامة المناسبات من أجل ذلك،
عدد من الطلاب خارج المملكة في بداية الابتعاث


كما يحظى من يحصل على الشهادة على التقدير والاحترام من الجميع، بل يصبح مصدر فخر بين أهله وأقاربه وأصدقائه لتحقيقه هذا الانجاز الكبير، ما ينعكس على وضعه الاجتماعي، خصوصاً عندما تكون الشهادة عليا ك "الدكتوراه"، فيطلق عليه لقب الدكتور أينما حل أو رحل ويستعذب والده اسم والد الدكتور أو أخوته أخو الدكتور. تنمية مستدامة استمرت المملكة على النهج في ابتعاث عدد من أبنائها الطلبة للتحصيل العلمي، وقد بلغ أوج هذا الابتعاث في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله -

وذلك من خلال حرصه على التنمية المستدامة للموارد البشرية في المملكة، حيث أطلق "برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي" ليكون رافداً مهماً لدعم الجامعات السعودية، والقطاعين الحكومي والأهلي بالكفاءات المتميزة من أبناء الوطن، وليعمل على تنمية الموارد البشرية السعودية وإعدادها وتأهيلها بشكل فاعل لتصبح منافساً عالمياً في سوق العمل ومجالات البحث العلمي. الجدير بالذكر أنه عندما انطلق البرنامج في حينها، كان مقرراً له أن يستمر لخمس سنوات حتى 2010م لكن نجاحه في خطته الخمسيّة الأولى دفع وزارة التعليم العالي - آنذاك - إلى التقدم للمقام السامي لتمديد البرنامج لفترة ثانية مدتها خمس سنوات تنتهي في 2015، ثم فترة ثالثة صدرت حديثاً على تمديدها ومدتها خمس سنوات تنتهي في 2020م. وبحسب الإحصاءات الواردة على موقع وزارة التعليم العالي الإلكتروني - آنذلك - بلغت أعداد المبتعثين بعد أكثر من (80) عاماً على تأسيس المملكة وأكثر من عقد من تدشين برنامج الابتعاث الخارجي قرابة (150) ألف مبتعث ومبتعثة، يتوزعون على أكثر من (30) دولة ينخرطون في تحصيل الدرجات العلمية من أرقى الجامعات العالمية في جميع المجالات والتخصصات العلمية والطبية والهندسية والعملية التي يتطلبها سوق العمل ومشروعات التنمية الكبرى في مختلف مناطق المملكة، وقد تخرج في هذا البرنامج حتى الآن نحو (55) ألف طالب وطالبة وبنسبة تعثر لا تتجاوز اثنين في المئة.

0 التعليقات: